الثلاثاء، 26 مارس 2013

من أنا؟


يتساءل الإنسان من أنا ؟! حين يفقد ويفتقد اهتمام المحيطين به، إنه يتواجد بينهم كالشبح لا شيء يشغل حواس الآخرين به، قد يخترق جمع الأصحاب دون أن تتحول أنظارهم عما هم به منشغلون إنه غير مرئي..

يتساءل الإنسان من أنا؟! حين.. يحصل أن يحرك شفتيه متحدثا، فهو يسمع نفسه جيدا، ومن يستقبل الحديث أصم الأذنين، إنه أبكم..
يتساءل الإنسان من أنا؟! حين يطلب منازل تفتح أبوابها وجوه ميتة، أبواب علق عليها في اليوم الأول قفل ثقيل، يطول الوقوف عنده قبل أن يفتح وإذا فتح لا يدخله، وفي اليوم الثاني يجد عليها مائة قفل آخر.. إنه نكرة..

يتساءل الإنسان من أنا؟! والسائل أعرف من المسؤول.. إنه السؤال الوحيد الذي لا توجد له إجابة حقيقية وصادقة إلا في ذواتنا.. أكيد أنا لن أطرق أبواب بيوت الآخرين ليخبروني عما يوجد خلف باب بيتي.. وإذا كانت أفكار الآخرين تقودني فما الجدوى من أفكاري، إن ذاتي ليست موضوع للنقاش والجدال، وإني لأرفض أن أكون يوما هيكلا فارغا أحمل ذاتي بين يدي وأطوف بها بين الآخرين وأنهمك في سؤالهم عن رأيهم فيها.

إن الجهل بخواص ذواتنا مرده أننا نقضي وقتا أطول في البحث عنها عند الآخرين، إن أفضل إجابة لسؤال الأنا أن تجلس إلى ذاتك من الفينة للأخرى حتى تتعرف عنها جيدا.
إن العيب ليس في ذواتنا، بل إن ذواتنا كمراهق مشاكس تحاول باستمرار أن تشدنا وتلفتنا إليها، بطرق وأخرى.. إنها تقول باستمرار أنا هنا، أستطيع أن أنموا! إني قابلة للازدهار! إني أتعلم ! إني ماهرة! ألا تمنحني فرصي! خدني معك ودعني أظهر وجودي... ولكننا نقتل ذواتنا وندفع بها لتتورى في ظلمة النفس حين، نصدها، حين نطلب باستمرار غيرها في اعتقاد أن ذواتنا تتشكل في ذوات غيرنا.
إنك لتعظم المرء الذي يكن حبا قويا لذاته، ويقدرها ويحرص باستمرار على أن يقدمها إلى ذوات أخرى يحترمها.. إنه يقول باستمرار في كل كلمة ينتقيها في كل سلوك رفيع، في كل عمل بديع تراه يقول أعرفك بذاتي سيدي اسمحي لي آنستي أن أقدم إليك ذاتي.. إنك لا تجده يسأل أبدا من أنا؟

إني أجزم وأنا أكتب هذه الكلمات أني أعبر بشكل أو بآخر عن ذاتي، وأجزم أيضا أن اللوحة الفنية الجميلة التي رأيتها صباح اليوم وأنا عائد من زيارة صديق معلقة تزين جدران غرفة الجلوس لديه، تقدم إلي ذات صاحبها.. وهذه الأغنية الجميلة التي أستمع إليها الآن تقدم صاحبتها ذاتها لي.. وذلك المقال المفيد الذي قرأته لباحث لا أعرف عنه إلا اسمه صباح اليوم، قدم إلي بشكل قوي ذاته، يبدو أن الجميع يحاول أن يقوم بأعمال وأفعال تمثل ذواتهم أحسن تمثيل، يبدو أنهم يقضون وقتا كبيرا في العناية بها، ويصرفون جهدا كبيرا في تطويرها ويفسحون لها قدرا من الحرية ليعلون عن وجودهم عبرها. هؤلاء لن يجيبوك أكيد عن سؤال الأنا، ولكن أقله ستتعلم منهم كيف تبحث في داخلك عن ذاتك، وعندما تجدها أتمنى أن تقدمها بسخاء إلى من تعزهم من الناس، وتشاركهم استعراضها أكان في لوحة فنية، في عمل متقن، في قصيدة جميلة، او في معاملة طيبة... لا تتردد فأنت في المسار الصحيح.

الثلاثاء، 19 مارس 2013

لن أعنونك

/ لن أعنونك
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
>>>>>>>>>>>>>
>>>>>\

كتبت بك الشعر مولاتي
 وأدرجتك في مذكراتي
 ولما كان الأدب فلسفتي
صرت أتأمل كل مكتوب
 أشك في نثر هذا
وأحفظ نظم ذاك،
وأبني من الأدب والأدباء في الحياة تصوراتي.
. وغير هذا،
لا المعاني حليفة، ولا ريح الأفكار نظيفة
 ولا من في النظم يغريني
........................
قالوا عنك عجوز شمطاء
بلغت من العمر عِتيا
عكازها فرسي
 وعباءتها سريالية
رداؤها يوناني
وإن كانت في المهد مشرقية
عفوا !!! أتريد أن مولاتي لغة صافحت الحضارات
وعانقت ملاحم البشرية
,,ذاك ما علمني في الصبا شيخي
 فأراك يا هذا في علم العجوز عاجزا
ما تزال صبيا
!فهل سمعت يوما بدروس  للناطقين بغير بالعربية؟

كيف تتألم




حين يقسو الدهر
لا تبكي ولا تحزن
سل المسكوب دمعه
دائم الجريان..
سل المنكوب حياته
مسلوب الكيان..

لا تنظر بكاء النافدة
بؤسا..
واحتراق الخشب في النار
انتحارا ..ويئسا..
قد أبصرتك يوما تلقي بأمطارك
بغزارة .. وقلبك يرقص لها
طربا..
وبصرتك تهنأ لحرارة النار
وتحن اليوم الثالي لهطول الأمطار
…………
حين يقسوا الدهر
لا تبكي.. لا تحزن
سل المسكوب دمعه
دائم الجريان
سل المنكوب حياته
مسلوب الكيان..
متى وجدت الحب
تجد الحرب
حسنا ! ألم تحضر
معارك الفصول على ميدان
الربيع والخريف..!؟
أولم تسحب الشتاء سيفها
في وجه الصيف على
أرض الخريف.. وحصلت على
الغنيمة..
وشهر الصيف مسدسه في
ظهر الشتاء وعلى
أرض الربيع.. وغنمت
بالوليمة..
يفترض أن تسكن للحن الأشجار..
وتتطوع لجمع الثمار
يُفترض أيضا أن
تفزع دوما لصوت البحار
تخاف من صدمة الموج
بالحجر..
وخشخشة أكفان الميت
بالقبر..
يُفترض أن تجزع وأُناس
تُحتَضر..

ودماء شعوب تكاد تتكلم
هكدا يُفترض أن تتألم..


نظرات خرساء




نظرات خرساء


تائه في أفكاره وهواجسه سحب تذكرة السفر من آلة خرساء، وأسند ظهره الى جدار المحطة الحديدي البارد، ولم يكد يـُـنزل محفظته حاسوبه عن كتفه المنهك، حتى سمع جرس وسيلة نقله الأحفورية يرن من بعيد، معلنا دنو أفعى فولادية شرهة تسعى في شوارع المدينة بلا كلل، تبتلع بأفواهها الجانبية أفواج من الركاب وتلفظ آخرين.
اتخد له ركن قصيا من العربة يقف فيه بعيدا عن نظرات الركاب، حتى مع توفر مقاعد تخدم أجساد الركاب المنهكة وتحتضنها، اختلى أحمد بنفسه، ورفع بيده الحزام مجددا ليزيح عن كتفه حمل الحقيبة الثقيل، وضل حزام أفكاره وهواجسه أثقل من أن يتخلص منه بحركة بسيطة، غائب عما حوله غارق في دجى أفكاره لم يكن من الصعب أن يتبين أحد الركاب من بعيد معالم تلك الحرب الضروس التي تدور في ذهن الرجل، وقد استقبل رأسه الأرض، وتركزت نظراته التائهة في بقعة واحدة من فراغ أرضية العربة، وحاجباه قد ارتفعا وتقوسا، وانكمش لهما ذقنه، يمارس طقوس التفكير في خشوع  يجعله في انقطاع عما يجري حوله، حتى أن مفهوم المكان والزمان يغيبان، ولا يبقى إلا ضجيج من الأفكار تعبث بعقل الرجل.
 بعد دقائق طوال، ودون سابق إندار يقاطعه إحساس لا يعرف منشأه، لم يعبأ به في البداية وحاول أن يصرفه، ولكنه كان أقوى من أن يتجاهله، إحساس يخبره أنه ليس وحيدا تماما.
كطفل مشاكس يحاول أن يثير انتباه والده المنهمك في العمل، فيمهله مرة واثنين والطفل لا يهمله، كذلك كان الإحساس بأنه مراقب يشاغبه ويقطع عنه في كل مرة حبل أفكاره، فلم يرى سبيلا إلا أن ينصاع ويدور برأسه في المكان، ولأول مرة، حدث قوي يشد أحمد استحق أن يقطع حبل أفكاره ويتفرغ له باهتمام وعناية.
وقعت عينه على لوحة فنية لا يملك المرء إلا أن يُسبحن مبدعها، فتاة في مقتبل العمر جلست في إحدى المقاعد على بعد فرسخين منه، جلسة غاية في التهذيب، وقد وضعت الساق فوق الأخرى منشئة ليديها كرسيا ملائكي تستقر عليه، بدت في جلستها المهيبة تلك أميرة تحيط بها هالة من الجمال والوقار، وكان لها شعر أشقر كخيوط الشمس الذهبية تنساب على جنبي وجهها المستدير، وما تبقى منه حقل قمح أوشك حصاده غطى جزء من كتفيها ونحرها، وأنف دقيق بعناية ربانية نحث على صفحة وجهها ، وجه قشدي اللون تشربت خدوده حمرة نعمانية خفيفة، فكانت الفتاة في غنى عن كل مساحيق التجميل وأدواتها، تنهد أحمد تنهديه عميقة وهو يردد في نفسه، لو كانت جميع النساء في حسنها لكسدت سلعة المساحيق وبارت تجارتها، وأغلقت المحلات التي تبيع أقنعة الجمال الكيميائية.
لم يكن هذا منشأ تلك الطاقة التي شعر الرجل أنها تحاول اختراقه، أو ذلك الإحساس المقلق بأنه مراقب، فكلها تفاصيل جمال تضل خرساء إذا ما قوبلت بما توحيه عينين غجريتين واسعتين، بدتا في زرقتهما العميقة كأنهما قطعة من المحيط، وقد اصطفت بجدار جفنيها رموش قائمة، وكأنها جموع من المصلين وقفت مستوية الصفوف ولبست حلة من السواد.
 بطرف عينه أعاد النظر إليها ليجد  أن ابتسامة خفيفة  قد ارتسمت على شفتيها هذه المرة،  أعاد الكرة المرة ، وهو لا يصدق المقام، ولسان حاله يقول "ويحك  إنها نفس النظرة" ، التفت مجددا حوله حتى يتأكد أنه حقا المعني بتلك النظرة، وأنه لم يخطئ زاوية النظر، فلم يجد أحد حوله، وعاد الصوت بداخله يحدثه، "ما أنت بالشاب الوسيم الذي تنشده فتاة في حسنها، ولا أنت من النجوم المشاهير ممن انتشرت صورهم في المجلات وصفحاتها، ولا أنت أحد رجال الأعمال المرموقين، ممن شاعت مشارعيهم في القنوات وأخبارها، وهذا هندامك المتواضع لا هو رسمي يخبر بمنصب أو مهنة تعيش في رغدها، ولا هو أنيق يحدث بثروة في البنوك تكدسها وتحميها..." وغيرها من الهواجس كلها تنتهي بعلامة تعجب أو استفهام؟!

كانت نظرتها عميقة وثابتة ثبوت جلستها، هو سرُّ ذلك الإحساس المقلق، الذي شد أحمد منذ البداية، ، فنزل برأسه يفكر ولسان حاله  يقول قد عرفنا أن العين تبوح بالكثير مما لا يبوح به اللسان، ولكن أن تكون للعين أصواتها ولها في الأفئدة آذانها، فهذا ما خبرته قط، وإلا أنَّا يكون إحساس المرء بأنه مراقب،  فيصدق الإحساس عن غير حواس؟!  ثم ما هذا الجمال الجبار، وما تلك الطاقة التي تحيط به، فتبدو صاحبته على قدر كبير من الثبات والسكينة والوقار؟! قد سمعنا بامرأة من عالم لا يُعرف عنه إلا القليل، كان لها في جمالها سحر يفتن أشد الرجال إيمانا، ويقودهم في النهاية الى حذفهم، أيعقل أنها... وقبل أن يتمم الصوت عبارته ينطلق صوت آخر بداخله ــ إلهي إذا كانت من بني جلدتي والتراب مرجعها تقدمنا منها وعرفنا سرها، وإذا كانت النار منشأها، فوضنا إليك أمرها.. تكفينا شرها.  
تباطأت سرعة العربة، وتململت الأجساد في مقاعدها، وانطلق صوت مألوف يعلن نهاية الرحلة ويدعوا الركاب بكل لطف وتهذيب الى الخروج، فُتح الباب أمام أحمد ودخلت معه نسائم الشتاء الباردة، لتصيب وجهه المشتعل وتنعش أنفاسه المختنقة، قبل أن تعترض مسيرها جموع الركاب الخارجة، وقبل أن يرفع أحمد حقيبته انتبه أن الفتاة ولأول مرة طوال الرحلة  تزيح  بنظرها عنه لتحرره أخيرا، ولكنه لاحظ أيضا أن الفتاة وإن اضطربت حركاتها فقد ضلت جالسة ولم تبدي أي استعداد للخروج، وقد خرج معظم الركاب فقرر أن يتقدم منها.
لم يكد يخطو خطوته الأولى حتى انتبه الى أنه ليس الشخص الوحيد الذي يطلب الفتاة، فامرأة أخرى على تقدم سنها احتفظت بنظارة جمالها، ومن أناقة لباسها المتناسق الألوان وتسريحة شعرها الأشقر بدت شديدة العناية بجمالها، تجاوزت الصفوف تتقدم نحو الفتاة وعندما وقفت بقربها تبين أحمد الشبه الكبيرة بينهما.
سحبت الفتاة بإحدى يديها حزمة قضبان معدنية كانت موضوعة بالقرب منها، وأنشأت تباعدها عن بعضها وتفتحها بعناية الواحدة تلوى الأخرى حتى تساوت جميعها في عصى واحدة طويلة،  ينتهي عند أحد طرفيها خيط أبيض أقحمت الفتاة يدها اليمنى فيه وأحكمت إمساك العصى وأحاطت بيدها الأخرى مرفق المرأة، واستدارت نحو الباب ومعها دارت نظراتها الفارغة، ومشتا معا بخطى حذرة  صواب الباب... 

أما أحمد فقد تصنم في مكانه بلا حراك وكأنه تمثال من الشمع، وما كاد يستوعب الموقف حتى سرت الحمى في جسمه وتعرق لها وجهه، فوهنت قوته، وخانتاه ركبتاه فاضطرب في وقفته وطلب أقرب مقعد يجلس فيه، فكان نفسه المقعد الدافئ الذي تركته الفتاة، وهنا عاودته من جديد أفكاره وهواجسه بعلامات الاستفهام والتعجب..

آهات مكلوم


إلهي ما لي لا أبكي, أوليس في مقلتي دمعٌ, أوليس في قلبي ألمُ ؟أولست مفجوعا فيها أوليس حزني أعظمُ؟
مالي والناس عيونها عند الحزن دامعةٌ, وقلبي المكلوم فيها دم ينزفُ, رحماك ربي إنما القلب بلغته مستعطف يهتفُ, جُرح قلبي عميق دمعه دما ,ألما ينزفُ, روحي شبابي يستنزفُ, ترى مصيبتي وجرمي عظيمين, حسبي رحمتك ربي أعظمُ٬ حسبي عنايتك بابن آدم لطيفةٌ, وبالمكلومين منهم ألطفُ.
ما كنت قبل هذا أحسب الحب إلا نزوتا, فأقول لمن يشكوني الوٍجد " هي ريح تهب وتنصرفُ", ما لي وحيلتي صَغُرت٬ والنزوة في قلبي شبت , مالي وريح الشوق شديدة  تهز  كياني وتعصفُ, إني ربي مخلص في حبها لا تستكين الروح بعدك لغيرها, فوا شعراه إني  لحبها منصفُ, فمن ينصف حبي ؟ اله من المنصفُ؟
ما كنت قبل هذا أراها إلا مقبلتا, ولا كنت ألقاها إلا وشفتاها الحمر عن ابتسامة تنفرج٬ وما نظرتها إلا وغمي تنسيني, وجدتـني أبكي لفقد قريب لها٬ ما بكت المفقود عينها٬ وأنا الحي يرزق تبكيني!!, سألتها لا تبكي عينك إنما الموت قسمة لنا منها يوما حظُّ, سحبتني بشدة ضمتني وعن شفتيها تعظُّ .. في غمرة الخوف روحها لبستني, وردت بلهجة أعشقها ( حبيبي الموت ما تديك ولا تديني), فقلت وقد هاج الهيام في قلبي : إن كنت يا نازع الأرواح من أجسادها لابد زائرا فالساعة زرني , واسموا بروحينا في عناقها. خدها إني استعطفك ومعها روحي خدني.
        

 

…لم يتجاوز بعد ثلاثة سنوات جلس أمام الباب عند عتبة الدار, وأخد يخط على تربة مبللة بأنامله الصغيرة رسما لأسرة من ثلاثة أفراد, أم وأب وولد بينهما يشد بيدهما وكأنها سلسلة مترابطة, لم يكد ينتهي من الرسم حتى مر عليه رجل خارجا من الدار , ربت على رأسه متجاوزا إياه, وقد ألقى بعقاب سيجارة من يده, وتابع المسير وهو يرتب ملابسه ويهذبها, حدق الولد فيه بإعجاب, قبل أن ينزل ببصره الى الرسم, فإذا بعقاب السيجارة يصيب رسم الأب ويفسده, وقف الصغير بخفة وقد تبدلت سحنة الحزن على محياه الى ابتسامة رقراقة, تألقت معها تلك اللمسة الملائكية المسماة (براءة).., جرى الولد خلف الرجل يصرخ أبي.. أبي, على أن هذا الأخير لم يكد يراه مقبلا حتى انسل بجسمه النحيف بين الأزقة مسرعا, وبعد دقائق من البحث لم يحصل الولد عليه, عاد - مرة أخرى- متثاقلا الخطى مطأطأ الرأس.
     
اليوم التالي وكالعادة جلس أمام الباب, وأخذ يرسم مجددا بعدما أزال ما بقي من عقاب سيجارة البارحة… رسم الأم والطفل, ولكنه توقف عاجزا عن إتمام الرسم ,يرفض أن يرسم صورة الرجل النحيف الطويل, مجددا. وهو على تلك الحال إذ برجل مكتنز البنية قصير القامة دو شارب عريض, يدخل الدار وقد ابتسم للصبي ابتسامة خفيفة, تهلل وجه الصغير لتلك الابتسامة وكأنه عثر على كنز ثمين, وعاد ليتمم رسمه, بمرح وخفة, مرة ساعة تلوى الأخرى وهو لا يزال يهذب ما خطته يده, ويزين تفاصيله ويسطر حواشيه, انتهى الصغير من الرسم وتطلع الى رسم الرجل متأملا إلى قامته القصيرة, فبانت على محياه سعادة وانفرجت عن فمه ابتسامة تفتح الآمال, خرج بعد ذلك الرجل, بعد فترة لم يعرف الولد كم بالتحديد, فلا فرق بين الساعة ونصف النهار, خرج وهو يحمل بيده قنينة خضراء شبه فارغة رمى بها أمام الولد, دونما أدنى اكتراث وسار عبر ظلمات الزقاق يتمايل ويغني, تابع الولد تدحرج الزجاجة الى ما بين قدميه خرج منها ذاك السائل المألوف يصيب الرسم ويمحي أثره, لم يأسف الصغير لهذا بل تبع الرجل يناديه أبي .. أبي انتظرني أنا قادم… والرجل لا يستجيب, إلا بعد ما وصل إليه وأخد يشد على قميصه, صارخا أبي لماذا لا تتوقف.., انتظرت كثيرا.. صرخت كثيرا.. جريت كثيرا.. لما لا تتوقف أبدا.., كان الرجل يحدق في وجه الولد مندهشا وعبارة أبي تتكرر على مسامعه, دفعه عنه بعنف حتى سقط على وجهه مجروحا, وما لبث الصبي أن استجمع وقفته وتبعه مرة أخرى , وفي لحظة تحولت دهشة الرجل الى حيرة ممزوجة بالغضب, دفعه مرة أخرى وهو يقول: ( سير تلعب لهيه آ ولد الحرام..).., وابتعد مهرولا وكأن ليس به سكر..
بعد سنة رحل الولد صحبة أمه الى حي جديد من أحياء المدينة القديمة ودار من دورها, توالت السنين, وبعد 14 سنة عاد مجددا وقد  اشتد صاعده وتمددت عضلاته وغدا رجلا. عاد الى الحي الذي ازداد فيه وقد دخله ليلا والناس نيام يحمل بيد قنين خضراء, وبيد أخرى سكينة طويلة, وبحافة أدنه علق سيجارة أخرى, كان يسب, يهدد, ويتوعد, زارعا الرعب في سكان الحي, يصرخ ( من كان فيكم رجلا..فليخرج إلي..)..

أتأتيني أم أنتحر

ما لي والنوم يأبى مغازلة الجفن والناس قد هجعت الى مضاجعها! من لم ينزع الى حبيب يسامره سامر من كان له في الحلم منتظرا٬ ما لي لا أعثر بين مئات الاسماء وآلاف الوجوه إسما أسبك على إثره حكاية نومي.. أو وجها أنسج وإياه حلمي.. انقضى الليل نصفه.. انتهى العمر جله٬ وليس يعرف النوم لي طريق.. ولست أجد في المكان رفيق..ها هي ذي النفس بيا تضيق والدرب يضيق..






ثقل الجسد عن نفسي وروحي الثكلى أفكاري لا تطيق .. لا أجد في الوجوه حولي مبتسما.. إلا وأنيابه تكشر.. ويا ما وراء الابتسامات سكاكين.. الى من تنزع روحي بعدك يا قاتلتي خبريني لمن تستكين.. هل أنا البائس الوحيد في الدينا أوليس مثلي مساكين؟! لعل فيهم من أعينه في أمره وفي أمريا هذا يكون ليا معين.. ولكن هيهات هيهات.. ترى المسالك المرشدة الى منازل أمثالي وعرة.. والمخاطرة خطرة.. الريح مكروهة وأشجار الطريق قدرة.. سأحيا بين الناس وفي أعين الشرفاء كما شاء القدر منحط نكرة..ما هذه الوحدة تخنقني٬ ما هذه الظلمة  تعميني٬ أين تلك الأيدي البيضاء الممدودة أراها وقد انقلبت الى أفاعي تلضغني..تدميني.. أين حضن الأم الحنون يأخد بي وأين دراع الأب الشديدة تحميني.. الصغر يا دهر أم الموت يشفيني..  لا الأول أجد له في المذكرات ذكرا.. لا ولا في بيت شعر في الدواوين.. ولا الثاني أجد له سبيلا في الحقن.. الأقراص.. ولا من الشراب .. السراب.. يسقيني٬ لا في المخافر  والزنازين.. لا في المستعجلات لا في ساحات الإعدام ولا في الميادين ..


الناس تسيح بوجهها بعيدا عني٬ والمكان يقصيني ما لي و الزمان ينكرني والذكرى الحلوة ينسيني، حتى الموت وأنا أطلبه يرفضني والغالي يأخدني.. لا الأحلام حليفة٬ لا الدموع خليفة٬ ولا ريح الأفكار نظيفة.. ولا من بالحياة يغريني٬ أخبيرني لما علي البقاء.. أرجوك فقط أرشديني.. انتظر؟! لما الانتظار! لقد حانت ساعة الإنتحار.. لا وصية ولا آخر الأخبار.. فقط كلمات أصب فيها شرارة وألم الإحتضار.. وبعدها أرتاح من كل شيء.. من غير أسف على الحياة ولا على أهلها إحتقار.. انقطع رجائي في الحياة.. دعيني أذهب أو أخبرني لما سأنتظر.. أملي فيها بصيص نور شمعة تحتضر.. أتأتيني يا ملاك وتنزع روحي وتريح النفس التعبة؟.. أتأتي أم أجبرك على المجيء وأنتحر .. ؟!